إضَاءَاتٌ علَى طَرِيقِ الحَيَاةِ

TimeQuran

الثلاثاء، أغسطس 02، 2011

شيزُوفرينيَا أهْل التعدِيل وَ التعْديل














يعرض لأحدهم ما يسمى بالشيزوفرينيا ، وهو مرض فصامي تتعدد فيه الآراء المتناقضة لدى نفس الشخص الواحد . فإذا ما أصابه ذاك المرض العضوي جراء أسباب تعرض لها في البيئة التي يعيش فيها عذرناه وتجاوزنا عما يصدر من فعاله ودعونا الله له بالشفاء والعافية . لكن إذا عمد معافٌ إلى التلبس بهذا المرض واتباع سنن المبتليْن به ، وهو في الحقيقة ليس منهم ، ولا مبتلا بمرضهم ، فهذا لا نعذره ولن نتجاوز عن أفعاله ، لكن سندعوا الله له بالهداية والعافية .

لن أتحدث كثيرًا عن علم الجرح والتعديل وفضله ، وكيف كان سببًا رئيسًا في حفظ الشريعة من التحريف والتبديل حتى الآن ، حتى حسدنا عليه أصحاب الملل المحرفة ، فقد أخرج الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع بإسناده عن عبدالله بن المبارك رحمه الله أنه قال : الْإِسْنَادُ عِنْدِي مِنَ الدِّينِ لَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ . 2 / 213

ودرج السلف الصالح على بيان انحرافات الفرق كالخوراج والرافضة والمعتزلة والجهمية والمرجئة والقدرية  والصوفية وحذروا منها وممن يدعون بدعواها إلى عصرنا هذا ؛ حفاظًا على عقائد المسلمين وتصفية لها مما يكدرها من شوائب البدع والخرافات ، حتى نبتت نابتة جديدة ليس لها أثارة من علم ولا نصيب من علوم السلف وفهومهم ، ورموا علماء الجرح والتعديل بما ليس فيهم ، وألصقوا بعلم الجرح والتعديل ما ليس منه ، وقعّدوا وأصلوا أصولا ما أنزل الله بها من سلطان ، ليخلوا الجو لأهل الهوى فيبثوا سمومهم في المسلمين ، وقد كان .

ولست في صدد التأصيل لهذا العلم الجليل وسرد الأدلة وبيان آثار السلف ، فقد قام به الأكابر وكفونا مؤنة ذلك ، ولكني سأقف في هذا المقال فقط على بعض العجائب والغرائب المتناقضة المتخالفة التي تصدر منهم عن جهل بقدر هذا العلم وحملته ، وصدق ابن حجر رحمه الله عندما قال : ومن تكلم في غير فنه أتى بمثل هذه العجائب . 

من ذلك هذان القولان المتناقضان : كل الدعاة على خير ×× إقرارهم بحديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة !! الذي أخرجه ابن وضاح في البدع 2 / 167 والمروزي في السنة 1 / 23 والآجري في الشريعة 1 / 307 وابن بطة في الإبانة  1 / 373 وصححه الحاكم في المستدرك 1 / 218 . 

ولا أدري ماذا يصنعون بهذا الحديث الثابت الصحيح !! أراح بعضهم نفسه وضعفه وليس لديه علم بالحديث لا رواية ولا دراية ، وإذا ضعفه فماذا يصنع بما ثبت عن الصحابة والسلف من التحذير من الفرق ورؤوسها والداعين إليها ! وكيف يكون كل الدعاة على خير والنبي الكريم عليه السلام قد قال كل الدعاة على ضلال إلا ... واستثنى صلوات الله وسلامه عليه نوعًا واحدًا فقط ! فهل يرون أن هذه الفرق وما فيها من ضلال كانت في العصور الأولى ولا وجود لها الآن ، إذا كان كذلك فالشرع والعقل والواقع يكذبون هذا . 

فأما الشرع فالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام قد بين أن هذه الفرق المتوعدة بالنار ابتداءً ستقع في الأمة ولم يحد هذا بزمن ولا عصر ، ومعلوم لمن لديه أدنى معرفة بالشرع أن الضلال هو الغالب على العالمين ، وهذا من أقدار الله عز وجل الكونية لا الشرعية ، قال الله تعالى : " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " الأنعام 116 وقوله جل وعلا في العصر : " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وإخبار النبي الكريم أنه في يوم القيامة يدخل الجنة من كل ألف واحد فقط كما في صحيح البخاري 4 / 138 . 


وأما العقل ، فلا يشك من أوتي أدنى دراية أن الضلال والغواية والانحراف تزيد وتتفحش مع تقادم الزمان وبعده عن زمن الرسالة ، تزايدًا اضطراديًا ، ومعالم الدين وعلومه تندرس وتقل كلما بعدت عن الأزمان الفاضلة والقرون المباركة . وأما الواقع فهو كالشمس لذي العينين فكل فرقة ضالة قد تولد عنها عشرات الفرق بل مئات الفرق الضالة ، التي تولدت عن الفرقة الأم ، ولا تجد بلدًا مسلما إلا وفيه من الفرق المنحرفة باسم الإسلام ما يعجز المرء عن عدّه وحدّه  !

ومن تناقضاتهم : إقرار - بعضهم - بوجوب اجتناب البدع ×× الثناء على أصحابها أوعدم التحذير من الداعين إليها !!

وكأن هذه البدع الضالة تمشي وحدها في أسواق المسلمين وتدخل بيوتهم ، وتدعو إلى نفسها بنفسها !! كيف تحذر ولدك من الكذب وعاقبته ثم تسمح له بمجالسة ومصاحبة من كان الكذب خلقه وديدنه ، ولا تحذر ولدك منه !! أو تقول له : بل هذا الكذاب الأشِر على خير !! يصرخ أحدهم بأعلى صوته بأن الصوفية أو الخوارج أو الأشاعرة مناهج مبتدعة وضالة ، ثم تسأله عن أحد منظري هذه المناهج  أوالمنافحين عنها ، فيقول لك : هو على خير ، لا بأس به !!

قال شيخ الإسلام في المجموع 28 / 230 :  وإذا كان النصح واجبا في المصالح الدينية الخاصة والعامة: مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحيى بن سعيد: سألت مالكا والثوري والليث بن سعد - أظنه - والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ؟ فقالوا: بين أمره. وقال بعضهم لأحمد بن حنبل: أنه يثقل علي أن أقول فلان كذا وفلان كذا. فقال: إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم. ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل. فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد . 
 

ومن تناقضهم : قولهم : إن الجرح والتعديل خاص بزمن الرواة ×× استشهادهم بأقوال أئمة الجرح والتعديل على مذهبهم المنحرف !!
 
وهكذا الهوى يهوي بصاحبه ، فإذا كان علم الجرح والتعديل معهم  في شيء - زعموا - رفعوا شأنه واستشهدوا بعلمائه ، وإذا كان ضدهم وفاضحًا لعوارهم ، نفوا أن يكون له وجود فيما بعد عصر الرواة ! ولمزيد بيان نقول : هم يشنعون على علماء الجرح والتعديل في هذا العصر بقولهم لا حاجة في الكلام في أهل البدع في هذا الزمان فالجرح والتعديل  خاص بزمن الرواة ، ثم هم في موطن آخر عند تحذير العلماء من أهل البدع والضلال وذكر سيئاتهم ، يقولون : ما بالكم لاتنصفون ولا تعدلون وتذكرون الحسنات والسيئات كما فعل الذهبي وغيره . ونقول : إذا أسقطتم كلام الذهبي وغيره على المجروحين في هذا العصر ، فهذا اعتراف ضمني بأن الجرح والتعديل لا يخص زمن الرواة ! فها أنتم تستدلون بآراء علماء الجرح والتعديل في المجروحين وتسقطونها على مبتدعة العصر ! 

والشيء بالشيء يذكر ، فإن منهج الموازنات بين حسنات أهل البدع وسيئاتهم باطل ، فقد قال الخطيب البغدادي في الكفاية 117 : قال نافع بن أشرس : كان يقال : من عقوبة الكاذب ألا يقبل صدقه ، قال : وأنا أقول : من عقوبة الفاسق المبتدع ألا تذكر حسناته .  

إن الغاية من هذا العلم الجليل هو تنقية السنة النبوية مما يشوبها من الكذابين والوضاعين والمبتدعة ، وإن كان زمان الرواية ومجالس التحديث قد انتهت فما زال المبتدعة ينشرون ضلالاتهم في الآفاق ، ولذا فقد ذكر شيخ الإسلام فيما نقلناه آنفًا بعد أن ذكر الكلام في الرواة تجريحًا وتعديلا  أن الكلام في أهل البدع أحد غايات هذا العلم ، حيث قال : ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع ؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل. فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد . 

ومن تناقضهم :  لومهم علماء الجرح والتعديل كونهم يحذرون من أهل البدع  ×× التحذير من علماء الجرح والتعديل !!

وهذا من العجب العجاب ، يقول الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " ، فإذا كانوا يرون أن الجرح والتعديل خاص بزمن الرواة ، أو أن الدعاة كلهم على خير ولا ينبغي التحذير من أحد منهم ، فلم إذن يحذرون من العلماء الربانيين الذين يكشفون عوار أهل البدع ويبينونها لعموم الأمة ! 
                                  أحرام على بلابله الدوح              حلال للطير من كل جنسٍ

ومن تناقضهم : إقرار - بعضهم - أن البدعة أعظم من المعصية ×× التحذير من أهل المعاصي بأشنع الأساليب !!

تراهم يقفون أمام دعاة البدع وقفة إجلال واحترام ، أو سكوت عنهم وعن انحرافاتهم ، و أمام دعاة المعاصي والفسوق ، تجدهم يشنعون عليهم بأقبح ألوان التشنيع والتحذير ، بل قد وصل الأمر بالبعض إلى حد تكفيرهم ! فكيف لهؤلاء يرون البدعة أقبح وأعظم جرمًا من المعاصي ، ولا يحذرون من أصحابها ، ويحذرون مع أصحاب المعاصي ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رفيقًا بأهل الكبائر ، شديدًا على الذين يحدثون في الدين كموقفه عليه السلام من الثلاثة الذين زهدوا في النوم والطعام والنكاح دينا وتقربا إلى الله ، وككلامه عليه السلام في الخوراج ووصفهم بأنهم كلاب أهل النار ، على حين لم يكفر الخوراج جمهور أهل السنة والجماعة ، ونظائر ذلك كثير في كتب السنن ليس هذا المقال مكان بسطها .

وفي خاتمة هذه الوقفات ، دعوة للتأمل في كلام الإمام يحيى بن يحيى النيسابوري الذي قال فيه : الذب عن السنة أفضل من الجهاد . نقد المنطق 12 . وفقنا الله لما يحب ويرضى ، وجعلنا من عباده السعدا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق