إضَاءَاتٌ علَى طَرِيقِ الحَيَاةِ

TimeQuran

الجمعة، مايو 06، 2011

مَن يقُود السَّفينة ؟!

















إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم دائما ما كانت مثار جدل عبر التاريخ الإنساني كله ، فكم من حاكم قاد رعيته بالحديد والنار ، وكم من شعب ثار على حاكمه واستأصل شأفته وقتله شر قتلة . وبين هذا وذاك يظهر حاكم عادل يسود رعيته بالحب والعدل ويدين له رعيته في المقابل بالطاعة والحب والولاء ،بيد أن هذا النوع من القلة بمكان حيث يعدون على أصابع اليد في تاريخ بلد أو أمة ما .

لم تفلح كثير من الأمم في تنظيم شئونها وتعديل مسار تاريخها السياسي فعاشوا حياة الفوضى والهمجية وساد في بلادهم قانون الغاب ، فكثير من شعوب أوروبا إبان عصورهم المظلمة كانوا على هذا الدرب الوحشي . على حين اختارت الشعوب التواقة للتحضر والتقدم أن تحكمها مؤسسات تتمثل في الحاكم وما يعينه على تسيير شئون البلاد والعباد ، وتأكد لها أنه لامناص عن هذا الحل إن أرادت الرفعة والسمو لبلادها . وما إن وصلت البشرية إلى هذا اليقين حتى سعت في تكوين العديد من التصورات للحاكم الذي يدير البلاد .
 
فحضارات قديمة كالفراعنة والبابليين والصينيين وغيرهم عمدوا إلى هذا الحل وأنشأوا أول حكومات تدير البلاد في التاريخ . وطفت على سطح الأحداث في تلك الأزمان مسألة ضمان الطاعة والولاء والالتزام الأخلاقي تجاه الحاكم حتى تستقر أمور البلاد ، فكان لجوؤهم إلى فكرة تأليه الحاكم ضرورية حتى يطمأنوا إلى استمرار ولاء الرعية لحاكمهم ، ونجحوا في ذلك إلى حد كبير .

فما بين التأليه والفوضى عاشت الشعوب جزءا لا بأس به من التاريخ الإنساني . لكن الحقيقة التاريخية التي لا يستطيع إنكارها عاقل هو أن الأمم التي نصّبت حاكما لها ولو ادعوا ألوهيته شيّدوا أعظم الحضارات التي عرفها التاريخ . 

ثم حدث أن شهد التاريخ الإنساني نموذجًا مثاليًا للحاكم بظهور الإسلام ، حاكم يستمد استقراره وقوته و ولاء شعبه من رافدين أساسيين : الالتزام الأخلاقي الشرعي بوجوب طاعة ولي الأمر ما لم يأمر بمعصية ، وعدله ورعايته لمصالح رعيته واعتناؤه بما يقيم شئون دينهم ودنياهم . انبنى على هذا الأساس وهذا التناغم الفريد بين الحاكم والمحكوم أعظم حضارة عرفها التاريخ .  

ظهرت أيضا نماذج تاريخية أخرى من أنظمة الحكم  تتعارض و مفهوم السلطة الحقيقية للحاكم ، فرأينا كيف كان السلطان أو الخليفة مجرد رمز للشعب وممارسة الحكم الفعلي في يد آخرين كالأقارب مثلا أو الوزراء ، أو أصحاب النفوذ والقوى ، أو في يد القوة العسكرية ، أو في يد محتل أجنبي .

بعد هذا التنوع التاريخي في أنظمة الحكم ومع سطوع شمس العصر الحديث وتخلي المسلمين عن حضارتهم الدينية والعلمية والسياسية والأخلاقية وعزهم التليد ، استمر تخبط الشعوب في  اختيارأنظمة الحكم ، فمنهم من فضل الملكية وآخرون أرادوها اشتراكية وآخرون جمهورية ، وشعوب اختارت الديموقراطية . ولم يعد أمامنا تقريبا إلا اتجاهين رئيسيين في الحكم .

اتجاه شمولي ديكتاتوري يعتمد على الولاء المطلق من طائفة ما للحاكم ، تستأثر هذه الطائفة بكل أنواع القوة والنفوذ في البلد ، ولا تعيش إلا على مبدأ التخوين والاعتقال الدائم لكل المعارضين وإيذائهم ، والعمل على بث الرهبة والخوف في كل صفوف الشعب . والعجيب أن كثيرًا من تلك الشعوب أحبت حاكمها على الرغم مما فعله بهم ، فعشق الروسيين للينين والمصريين لجمال عبدالناصر والكوبيين لكاسترو لا يخفى على أحد . مما يعيب هذا الاتجاه - مع كونهم قد  ينعمون بالاستقرار - انتشار التخلف والجهل وضعف الاقتصاد ، وهبوط معدلات النمو والتطور  .

اتجاه ديموقراطي حر يقوم على تدوال السلطة ، ويعتمد على أن الشعب هو مصدر السلطات ، والحاكم ما هو إلا وسيلة لتسيير أمور البلاد بما يتوافق مع ما تشرعه وترغب فيه المؤسسات التشريعية في هذه البلد أو تلك . وهو الاتجاه الذي يروَج له كثيرا في كل الأوساط الإعلامية في البلاد الإسلامية . 

في نظام الحكم الديموقراطي لا يستأثر الحاكم بالحكم وحده ، ولا الشعب وحده هو الذي يحكم ، ولا المؤسسات التشريعية كمجلس الشعب أو الشورى أو مجلس الشيوخ أو البرلمانات بتنوعها هي التي تحكم وحدها ، ولا القوات المسلحة هي التي تحكم وحدها . بل هو حكم مشترك بين كل هؤلاء ويتفاوت نصيب كل منهم في الحكم باختلاف أحوال البلاد وظروفها التاريخية . وهنا سؤال يطرح نفسه : من الذي يحكم إذن ؟! وهل يعقل أن تستقر أحوال البلاد إذا قادها كل هؤلاء على اختلاف أهوائهم وتوجهاتهم ؟ إن بلدًا مثل أمريكا أتاح هذا الصراع الخفي على السلطة بين هذه الأطراف السبل لكثير من المفسدين والمنحرفين كاللوبي الصهيوني إلى التغلغل في كل مؤسسات هذه البلد بل والتحكم فيها ، ومن ثم التحكم في كثير من مقدرات العالم . أدت هذه الفوضى المنظمة في الحكم إن صح التعبير إلى سياسة خارجية متخبطة وإلى إهدار أموال البلاد فيما لا طائل منه ولا هدف . حقا قد تستطيع تلك الشعوب إسقاط حكومة لا ترتضي أداءها أو سياستها ، ولكن بعد أن تكون قد مارست ما يحلو لها من السياسات الخاطئة . 

ماذا إذن لو حكم المسلمون بما يأمرهم به إسلامهم ! اختيار صحيح للحاكم مبني على الشروط التي دونت في كتب السياسة الشرعية ، ثم إعطاؤه السلطات والقوة التنفيذية المحكومة بالشرع ، ثم معاونته على رفعة شأن الأمة وازدهارها . إنها لحظة عزيزة أتمنى لو قدر لي أن أعيشها ولو ليوم . حاكم مسلم يدين له المسلمون بالولاء والطاعة في غير معصية ، حاكم يحرص على شئون الرعية ويجعلها نصب عينيه ، حاكم يبذل قصارى جهده في رفعة شأن بلده وقومه . ولا ضير لو جار بعض الجور أو قصر بعض التقصير ، فهو في النهاية بشر يصيب ويخطئ ، مادام يظهر الحرص والعناية ، ويوكل إلى من يستحق الخدمة والرعاية . ورعية تحفظ إمامها وتقومه و تسد على المخربين والمفرقين طرق التشتت والافتراق وتتقي الله عز وجل فيه . إننا لو استرشدنا واهتدينا بديننا القويم فلن تكون هذه الأمنيات الغالية عنا ببعيد ، والله الهادي إلى سواء السبيل .