إضَاءَاتٌ علَى طَرِيقِ الحَيَاةِ

TimeQuran

السبت، مارس 26، 2011

حِكَايَة دُستور





















 يقال عن الدستور أن فيه مجموعة من القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها ، ومدى سلطتها إزاء الأفراد ، وهو الإطار الذي يجب أن تلتزم به كافة القوانين . وقد كانت بداية هذا الدستور حين لجأت بلاد أوروبا في عصور الثورة الصناعية ثم النهضة إلى ترسيم هذه الوثيقة ومحاولة إلزام الحاكم والمحكومين بها ؛ وأسباب ذلك لا تخفى على أحد ، فقد عاشت أوروبا قبل تلك الحقبة عصورًا مظلمة ، لم يُنْجيها منها إلا حضارة المسلمين وازدهارُهم .


شرع الأوربيون في بناء حضارتهم ومجدهم والسعي الحثيث نحو العلم والتعلم ، لكن السلطة الدينية حالت دون هذا الطريق ، بل وصل الأمر إلى حد التهديد بالقتل والقتلِ ذاتِه إذا ما اشتهر عالمٌ في مكان ما ، أو نشر اختراعًا من اختراعاته ، و ما واقعة إعدام جاليليو بخافية على أحد . ثارت ثائرة شعوبهم على تلك السلطة وهذا القمع ، ونحُّوا دينهم جانبا ليواصلوا مسيرة التقدم وظهرما يسمى بالعلمانية . خلت الساحة إذن من مرجعياتٍ لها الاحترام والقدسية التي تلزم الحاكم والمحكومين الالتزام بها وتنفيذها ، فاضطروا إلى تدشين الوثائق وإنشاء القوانين التي تنظم علاقتهم و وتعطي كل ذي حق حقه .


تخلف المسلمون وتقدم الأوروبيون ، واحتلوا مساحات شاسعة من العالم الإسلامي ، بثوا فيها سمومهم وأفكارهم ، ونجحوا إلى حد كبير في إبعاد المسلمين عن دينهم ، ثم رحلوا بعد أن اطمأنوا على أن منابرهم الفكرية لن تهدأ ، فقد زرعوا في المسلمين من يتبنّى صوتهم ويدافع عنه حتى الثُّمالة . تحاكموا إلى غير الشريعة فتحاكمنا إلى غيرها .. نشروا رذائلهم تحت دعوى الحرية والعدالة والمساواة فنشرناها .. كتبوا الدستور فكتبناه .


عجيب أمر المسلمين ! لماذا يلجأون إلى هذا الدستور وبين أيديهم القرآن والسنة اللذان حكما المسلمين قرونًا من الزمان ، وعاشوا تحت ظلهما أزهى عصورهم في العلم والحضارة والعدل والرخاء والعز والتمكين . عجيب أمرنا لماذا نتحاكم إلى دساتير من صنع البشر ولدينا كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . إن للكتاب والسنة إجلالٌ وتقديسٌ وتعظيمٌ واحترامٌ لم يصل إلى عشر معشاره كل الدساتير الوضعية . ومن نظر إلى  موروثاتنا الشرعية والفقهية التي سطرها علماء الفقه والأصول والسياسة الشرعية والأحكام السلطانية وجد زادًا لا ينضب ومعينًا لا ينفد من التشريعات والقوانين التي تحكم الراعي والرعية ، وفيها أبواب من المرونة والتيسير الذي يصلح لكل زمان ومكان .


وقد يزداد عجبك حين تعرف أن دستورًا كدستور مصر مثلا تغيّر وعُدل فيه وحذف منه وألغي تمامًا إحدى عشرة مرة  منذ عام 1882 م وحتى عام 1971 م . وفي حقيقة الأمر لم يكن هذا الدستور محل تقديس أو تعظيم من قبل الحاكم أو المحكومين . ففي دستور مصر الأخير مادة تقول : الإسلام دين الدولة ، واللغة العربية لغتها الرسمية ، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ، وكلنا يعلم أن كثيرًا من أحكام الشريعة الإسلامية معطلة ، كما أن بعض أبناء هذا البلد المسلم ينفر من أحكام شرعية كالحدود والقصاص ، ويرى أن الملاهي والمراقص لا شيء فيها ولا ضير .  


من المواد التي وُضعت ولم تكن أيضا محل احترام أو تطبيق المواد الخاصة بالحرية الشخصية وحرمة التعدي على النفس ، وتجريم التفتيش الذاتي أو تفتيش بيت المواطن إلا بإذن من النيابة . ومنها أيضًا المادة التي تنص على وجوب احترام الحقوق العامة وحقوق العمال وأن لهم نصيب في إدارة المشروعات وفي أرباحها كما نصت المادة السادسة والعشرون . ومنها استقلال السلطة القضائية استقلالا تامًا وعدم خضوعها لأية ضغوطات أو ممارسات حتى لو كانت من قبل رئيس الجمهورية .  


من مواد هذا الدستور أن السيادة للشعب وحده وهو مصدر السلطات كما في المادة الثالثة ، وفي ذلك مصادمة لأحكام الشريعة الغراء التي قررت أن مصدر السلطات التي يتحاكم إليها الناس لابد وأن تكون الشريعة الإسلامية . وفيه  من رواسب الحقبة الاشتراكية وضع حد أقصى للملكية الزراعية ، وذلك يتنافى والحرية الشخصية ويتعارض مع الملكية الخاصة . ومن التناقضات العجيبة في تلك الوثيقة اجتماع إعلان حالة الطوارئ في البلاد والتي تبيح للسلطات التعدي على حرية المواطن الشخصية والفكرية والخاصة لمجرد الاشتباه أو الشك ، مع تجريم التعدي عليه بأي شكل من الأشكال إلا بإذن من النيابة وبعد اتهام حقيقي مبني على التحقيق والتأكد . ومن التناقضات أيضًا أن هذا الدستور إنما يقوم على وضعه نخبة من العلماء والمفكرين والقانونيين والقضاة رعاية لمصالح البلاد والعباد وحرصًا على الأمن والاستقرار ، وهذه المصالح قد تخفى على كثير من عوام الشعب وأفراده ، فكيف يُستفتَوْن عليها إذن ؟!     




واليوم ها نحن نغير فيه مرة أخرى ونعدل ، ونحذف وندون موادًا جديدةً ، ثم نلغيه . وغدًا نضع دستورًا جديدًا ، ثم نغير ونعدل ، ونحذف وندون ، ثم نلغيه ، وهكذا .. حتى ينادي منادٍ بأعلى صوته أن كفى يا قوم .. أين عقولكم ؟! أين دينكم ؟! إلى متى هذه الغفلة ؟! إلى متى هذا الإعراض ؟! فيلقى آذانًا صاغية وقلوبًا واعية ، ونعود إلى أمجادنا التي تركناها ، ونسود من جدبد .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق